فصل: الباب الأول: في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مقدمة ابن عجيبة:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
(وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)
قال الشيخ الإمام الحبر الهمام، العارف الرباني والقطب الصمداني، قدوة السالكين ومنار الواصلين، بحر العرفان، ومشرق شمس العيان، مهيع الطريقة، الجامع بين الشريعة وبحر الحقيقة، أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى- رضي الله عنه وأرضاه- آمين: نحمدك يا من تجلّى لعباده في كلامه، بكمال بهائه وجماله، وفتق ألسنة العلماء النحارير لاستخراج درره ولآلئه، وفجّر قلوبهم بينابيع الحكم المؤيدة بأصوله ومبانيه، واستفادوا عند غوصهم في تياره من فرائده ومثانيه، فدحضوا بآياته الباهرة، وحججه الظاهرة القاهرة شبه من يناويه ويعانيه، والكلّ معترف بالتقصير، مغترف على حسب الفهم والتيسير، من بحر أسراره ومعانيه، فهو البحر الطام الذي لا يدرك له قعر، والروض المونق الذي لا يعدم منه زهر ولا نور، وكيف لا، وهو كلام مولانا العالم بالخفيات، وبما كان وما هو الآن وما هو آت؟!.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، مظهر الرحمات، المبعوث بخوارق العادات ولوامع البينات، وعلى آله وأصحابه أولى النّدى والسماحة، وجبال اليقين في اشتداد الأزمات وتفاقم المعضلات.
وبعد:
فإن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم، وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرأئح الفهوم، ولكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النّحرير، الذي رسخت أقدامه في العلوم الظاهرة، وجالت أفكاره في معاني القرآن الباهرة، بعد أن تضلّع من العلم الظاهر، عربية وتصريفا ولغة وبيانا، وفقها وحديثا وتاريخا، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال، ثم غاص في علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال، وإلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم، واشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم.
واعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر، وباطن لأهل الباطن، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن، لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم، ولا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر، ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة وإشارة دقيقة، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار فليسلّم، ولا يبادر بالإنكار فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول، ولا يدرك بتواتر النقول.
قال في لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة- يعنى الصوفية- لكلام اللّه وكلام رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في حرف اللسان، وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح اللّه قلبه، وقد جاء أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع». فلا يصدّنك عن تلقى المعاني الغريبة منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذا إحالة لكلام اللّه عز وجل وكلام رسوله صلى اللّه عليه وسلم فليس بإحالة، وإنما يكون إحالة لكلام اللّه لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لا يقولون ذلك. بل يقرّون الظواهر على ظواهرها ومراداتها وموضوعاتها، ويفهمون عن اللّه ما أفهمهم. اهـ.

.مقدمة ابن عاشور:

قال عليه الرحمة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
الحمد لله على أن بين للمستهدين معالم مراده ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانونا عاما معصوما وأعجز بعجائبه فظهرت يوما فيوما وجعله مصدقا لما بين يديه ومهيمنا وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئا ويعد محسنا حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد وشهد له الراغب والمحتار والحاسد فكان الحال بتصديقه أنطق من اللسان وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق فبه أصبح الرسول الأمي سيد الحكماء المربين وبه شرح صدره إذ قال: {إنك على الحق المبين} فلم يزل كتابه مشعا نيرا محفوظا من لدنه أن يترك فيكون مبدلا ومغيرا، ثم قيض لتبيينه أصحابه الأشداء الرحماء وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء.
فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين أما بعد فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد الجامع لمصالح الدنيا والدين وموثق شديد العرى من الحق المتين والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع وتفاصيل من مكارم الأخلاق كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره أو مطالعة كلام مفسره ولكني كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحم على هذا المجال وأحجم عن الزج بسية قوسي في هذا النضال.
اتقاء ما عسى أن يعرض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة أو فلتات سهام الفهم وإن بلغ ساعد الذهن كمال الفتوة.
فبقيت أسوف النفس مرة ومرة أسومها زجرا فإن رأيت منها تصميما أحلتها على فرصة أخرى وأنا آمل أن يمنح من التيسير ما يشجع على قصد هذا الغرض العسير.
وفيما أنا بين إقدام وإحجام أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وأخرى الثمام.
إذا أنا بأملي قد خيل إلي أنه تباعد أو انقضى إذ قدر أن تسند إلي خطة القضا.
فبقيت متلهفا ولات حين مناص وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان وأضرب المثل بأبى الوليد ابن رشد في كتاب البيان ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة فإذا الله قد من بالنقلة إلى خطة الفتيا.
وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا فتحول إلى الرجاء ذلك الياس وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس.
هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته واستعنت بالله تعالى واستخرته؟ وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط إذا بذلت الوسع من الاجتهاد وتوخيت طرق الصواب والسداد أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع على وادي السباع؛ متوسطا في معترك أنظار الناظرين وزائر بين ضباح الزائرين فجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون وفي كلتا الحالتين ضر كثير وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة فالحمد لله الذي صدق الأمل ويسر إلى هذا الخير ودل.
والتفاسير وإن كانت كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لاحظ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل.
وإن أهم التفاسير تفسير الكشاف والمحرر الوجيز لابن عطية ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع وتفسير الشهاب الألوسي وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني على الكشاف وما كتبه الخفاجي على تفسير البيضاوي وتفسير أبي السعود وتفسير القرطبي والموجود من تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي من تقييد تلميذه الأبي وهو بكونه تعليقا على تفسير ابن عطية أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن وتفاسير الأحكام وتفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي وربما ينسب للراغب الأصفهاني.
ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية مما لا يذكره المفسرون وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر فكم من كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم وقديما قيل:
هل غادر الشعراء من متردم

إن معاني القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزعة على آياته فالأحكام مبينة في آيات الأحكام والآداب في آياتها والقصص في مواقعها وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر.
وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان ولكن فنا من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونكته آية من آيات القرآن وهو فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما ألهمته بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر.
وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى نظم الدرر في تناسب الآي والسور إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع. أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض فلا أراه حقا على المفسر. ولم أغادر سورة إلا بينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله.
واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة.
وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير ففيه أحسن ما في التفاسير وفيه أحسن مما في التفاسير.
وسميته تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد واختصرت هذا الاسم باسم التحرير والتنوير من التفسير وها أنا أبتدئ بتقديم مقدمات تكون عونا للباحث في التفسير وتغنيه عن معاد كثير. اهـ.

.مباحث في الاستعاذة:

.قال الفخر:

.الباب الأول: في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم):

.المسألة الأولى: (وقت قراءة الاستعاذة):

اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة، وعن النخعي أنه بعدها، وهو قول داود الأصفهاني، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين، وهؤلاء قالوا: الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال: (آمين) فبعد ذلك يقول: أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم «أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال: الله أكبر كبيرًا ثلاث مرات، والحمد لله كثيرًا ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه».
واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكر الاستعاذة جزاء، والجزاء متأخر عن الشرط، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن، ثم قالوا: وهذا موافق لما في العقل، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاث مهلكات» وذكر منها إعجاب المرء بنفسه؛ فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن المراد من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98] أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، لأنه يقال: ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.
أما جمهور الفقهاء فقالوا: لا شك أن قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98] يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقًا بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه، ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} [الحج: 52] وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب.
وأقول: هاهنا قول ثالث: وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن، جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان.